من ذاكرة الاستاذ المحامي/ محمد عياش ملحم
يقول احد اهم مفكري وزعماه هذا العصر أن النقابات تشكل مراكز التدريب الأولى والأهم للجمهور وخصوصا العمال، ففيها يتعلم المواطن واجب الانتظام والنظام وقيمة الوقت والمواظبة والتعايش مع الآخرين والعمل بالتنسيق معهم وصولا الى نتيجة خلاقة هي المنتوج.
?كان اول ما سمعته عن النقابات ما كان يسرده لي ابناء بلدتي وانا في الصفوف الابتدائية والاعدادية عن ما تقدمه لهم نقابة عمال مصفاة حيفا وما تقدمه نقابة العاملين في معسكرات الجيش البريطاني في صرفند و غيرها الى ان التقيت وانا طالب جامعي في انجلترا بزوج وزوجته في اردين في اسكتلندا وكانا يمثلان حزب العمال في المجلس البلدي نيابة عن النقابات وقد فتحا عين
اي على قيمة هذه المؤسسات ذات الجذور الضاربة في بريطانيا وما قدمته الحركة النقابية من خدمة لابناه تلك الطبقة بدءا من تقليص ساعات العمل من 18 ساعة يوميا حتى 36 ساعة في الاسبوع بعد نضالات مريرة واحيانا دامية كما حدث ابان وجود ونستون تشرشل وزير الداخلية في بريطانيا .
تملكتني هذه الصورة بشكل خاص عند اول وظيفة في الأرامكو في السعودية عام 1951 حيث لمست الفوارق الهائلة بين مداخيل وحياة المدراء والموظفين الامريكان (ناهيك عن الشركات وأربابها) والعمال السعوديين وغيرهم. ولدى عودتي للاردن وممارسة مهنة المحاماة عام 956 ا كان اول من تعرفت عليهم من النقابيين زيدان يونس امين عام اتحاد النقابات، وثم زكي الشيخ ياسين ووجيه منكو الذين شغلا هذا المنصب والنقابيين المؤسسين المناضلين موسى قويدر وسامي الخاروف من نقابة عمال الخياطة ومحمد البلوي من نقابة صناعة الجلود ورئيس نقابة عمال المطابع رحمهم الله جميعا. وكان ان بت محامي اتحاد النقابات في ظل قانون العمل لسنة 1960 الذي يعرفه الكثيرون من جيلي وبعض جيل اليوم والذي يؤسس لعدد من الامور الهامة رغم بعض النواقص، كعدم النص على عدم شرعية الفصل التعسفي وعدم توفير ضمانات تتعلق بالحريات النقابية إلا انه كان متقدما على الكلير من قوانين العمل السائدة في أقطار عربية وحتى غربية.
كانت الفقرة الممتدة ما بين اواخر الخمسينات وبداية الستينات اعواما قاسية تعرضت فيها البلاد للاحكام العرفية وقاست النقابات القائمة كغيرها من المنظمات الجماهيرية من تلك الممارسات والتصرفات ، فقد حلت بعض النقابات في فلسطين (الضفة الغربية حينها) وتم تجميد تسجيل النقابات في الضفة الشرقية و تعرض النقابيون كفيرهم لتلك الصعوبات.
وفي عام 1961 استانفت ممارسة المحاماة بعد غياب قسري عامي 1959
1960 وغالبا ما كنت اترافع في قضايا العمل والنقابات، وكان أن طلب إلي عدد من موظفي المصارف تأسيس نقابة لهم في تلك الظروف، وهم السادة فريد الحسيني، ومحمد ملحس، وعطا اهرام، ومحمد الدجاني، ومنور السلايطة، ووليد خير الله، وحياة النجداوي، وعيسى دواني، وانشراح بقلة، ومحمد خير يو سف، وسعاد هريش، وليلى بقيلي، وسميح أبو كويك، وطلال عربيات، وعبد الرحمن الخطيب،
?وسعبد
التيجاني، ونايف ابو عبيد ،وميشيل صليبا وبهاء عبد الرحيم ، وجوزفين عوده كرا دشه، والياس أفرام، ومنصور قناش، وأندراوس خرعوبا، وهاني ابو جبارة، وجميعهم من العاملين في البنك الأهلي والبنك العربي والاتحاد التعاوني، وقد بينت لهم ان ذلك ممكن بشرط مراعاة ما ورد في قانون العمل acute;acute; أي تقديم طلب موقع من 20 موظفا ومشروع نظام داخلي مقترح…الخ وكان هذا ما سبق وقدموه الى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي قابلتهم بالرفض.
أذكر أن المسؤول عن دائرة العمل كان المرحوم ( أدهم الحجاوي )أبو بسام( وكان وكيل الوزارة و)الأمين العام( امين الحسيني وقمت بمقابلتهم وكيلا عن 20 موظفا في المصارف واعلموني أن الطلب هذا مرفوض، فطلبت منهم تزويدي بكتاب الرفض خطيا لأستند اليه امام محكمة العدل العليا باعتباره قرارا اداريا، ومحكمة العدل العليا كانت وما زالت صمام العدالة ومرجعها في هذا البلد.
في اليوم التالي أعددت لائحة الدعوى طعنا في قرار وزير الشؤون الاجتماعية والعمل باعتباره مخالفا للقانون وطالبت بإلغائه وتسجيل نقابة المصارف خصوصا وأن الشروط التي يتطلبها القانون متوفرة وعليه يكون القرار الإداري لاغيا ويعتبر الطلب صحيحا وطلبت من المحكمة أن يبين الخصم الأسباب التي تحول دون ذلك.
وفي اليوم المحدد ترافعت بالمعنى المشار اليه اعلاه وقدمت نسخة من الطلب الذي قدمه الموظفون ورد الوزارة بالرفض مشيرا الى التواقيع المطلوبة و مشروع النظام الداخلي المرفق، وتأجلت الجلسة للرد بعد أيام
وفي اليوم المحدد حضر المرحوم سامي شمس الدين رئيس النيابات العامة وحضر معه ضابط من الامن العام ومعه 20 إضبارة للموظفين العشرين واضبارة إضافية للمحامي، ولم تخل الجلسة من تعليقات حادة ولكن ضمن الاصول.
وفي رده المقتضب قال رئيس النيابات العامة ان الطلب مرفوض وقدم الضابط المرافق (الإضبارات).
وكان رد رئيس المحكمة المرحوم علي مسمار أن الجهة المعنية والمنوط بها الرد والتسجيل هي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وأن الحكم والمرجعية هو قانون العمل ومتطلباته والتي تمت تلبيتها بالكامل وأيد القاضي المرحوم موسى الساكت ذلك وطلبا منا الخروج للتداول.
وبعد حوالي نصف ساعة نودي علينا جميعا لسماع القرار الذي كنا تنوقعه ونرجوه والذي تضمن النص التالي:
وقد أصدرت هذه المحكمة بتاريخ 18/4/1961 قرارا مؤقتا دعت فيه المستدعى ضده لبيان الأسباب التي تمنع من إلغاء قراره المشكو منه، فقدم رئيس النيابات العامة بالوكالة عنه لائحة جوابية ذكر فيها أن السبب في رفض طلب المستدعين هو ان المجلس الاعلى لامن الدولة يعارض بقوة إيجاد النقابات حرصا على سلامة الأمن.
وبعد الاستماع لأقوا ل الفريقين في جلسة علنية تبين لنا أن السبب الذي بنى عليه مسجل نقابات العمال قراره برفض تسجيل نقابة المستدعين هو ان المجلس الاعلى لأمن الدولة يعارض في ايجاد النقابات في المملكة حرصا على الأمن العام، وهذا السبب يتعارض مع نص البند (و) من الفقرة الثانية من المادة 23 من الدستور الذي يوجب على الدولة ايجاد تنظيم نقابي حر ضمن حدود القانون.
وحيث إن قانون العمل المؤقت رقم 21 لسنة 1960 الذي وضع لتنظيم شؤون العمل استنادا للمادة 23 المشار اليها قد اوجب في المادة 72 منه على مسجل نقابات العمال تسجيل النقابة وإصدار شهادة التسجيل اليها عند توفر الشروط المنصوص عليها في المواد 69 -71
?وحيث إن المستدعين قد قاموا بجميع الشروط المشار اليها والمستدعى ضده لا ينكر ذلك.
وعليه يكون القرار المشكو منه برفض طلب التسجيل مخالفا للقانون، إذ لا يجوز رفض الطلب بالاستناد الى المعارضة في تاليف النقابات بشكل عام ما دام ان القانون القائم يجيز تاليفها. فنقرر عملا بالمادة 74 من قانون العمل إلغاء القرار المطعون به والحكم بتسجيل نقابة المستدعين
لقد كان ذلك القرار بحق اختراقا لفترة جمود لا مبرر لها في ظل تلك الظروف الصعبة، إذ تم بعد ذلك تسجيل عدد من النقابات في الضفتين بعد أن كانت موقوفة أو مرفوضة، وأعيد فتح النقابات المغلقة في الضفة الغربية مشكلة بذلك بادرة وسابقة لمصلحة جميع النقابات دون استثناء.