من ذاكرة السيد/ محمد ملحس
امين سر نقابة مستخدمي المصارف
سنة 1961-1962
كان ذلك في أواخر الخمسينات من القرن الماضي ، وكانت العلاقات بين البنوك المتفرقة تتم بشكل مباشر دون تدخل البنك المركزي-وليس كما هي الحال الآن- حيث لم يكن موجودا بعد ،فقد كان كل بنك يرسل شيكات المقاصة المتجمعة لديه إلى كل من البنوك المسحوبة عليها مرتين في اليوم وكان التعاون بين موظفي البنوك، خاصة المراقبين والمسؤولين من موظفي أقسام الودائع و الحوالات الداخلية، وثيقا من خلال الاتصالات اليومية المتكررة لغايات حجز قيمة بعض الشيكات لتسليك عمليات العملاء أو للإبلاغ عن الشيكات المرفوض صرفها لسبب من الأسباب (الشيكات المعادة) ، من هنا نشأت علاقات صداقة حميمة عبر الهاتف بين عدد غير قليل من موظفي البنوك، وأصبحوا يميزون أصوات بعضهم وتدور بينهم أحاديث قصيرة متقطعة عن هموم العمل ومشاكله وطموحات الموظفين وامتيازات موظفي هذا البنك أو ذاك دون البنوك الأخرى ومستوى الرواتب وما إلى ذلك ، وتطورت هذه العلاقة إلى التعارف وبناء الصداقات الشخصية من خلال اللقاءات في إحدى المقاهي أو الأندية وأحيانا في المحال التجارية أو مكاتب عمل بعض عملاء البنوك من أصدقاء هؤلاء الموظفين.
في بدايات عام 1960 كنت مساعدا لرئيس قسم الودائع في احد البنوك الأردنية المعروفة، وقد توصلنا – نحن مجموعة من موظفي البنك العربي، البنك الأهلي، البنك التعاوني،بنك الأردن،والبنك العقاري- إلى ضرورة إيجاد وسيلة قانونية توفر لموظفي البنوك مقرا يلتقون به ويبنون من خلاله علاقات الصداقة والتعاون فيما بينهم ويوفر لهم إمكانيات ممارسة هواياتهم وتنمية ثقافاتهم وتعبئة أوقات فراغهم بوسائل تسلية مفيدة كالشطرنج والبلياردو أو المطالعة …. الخ .
وكان الاتجاه السائد أن نعمل على إنشاء ناد خاص بموظفي البنوك وفق القوانين المعمول بها في المملكة حيث بدأت مشاورات جدية لتحقيق هذا الطموح ، ولعل من حسن المصادفة انه وأثناء مناقشاتنا لفكرة النادي صدر قانون العمل الأردني رقم (21) لسنة 1960 الذي ثبت حق العمال في تأسيس النقابات حيث نصت إحدى مواده انه ( يحق لأي عشرين عاملا أو أكثر يعملون في مهنة واحدة أو في مهن مماثلة أو لدى صاحب
عمل واحد أن يؤسسوا نقابة لهم ) ويقدم طلب التأسيس مع النظام الأساسي إلى (مسجل نقابات العمال) في وزارة الشؤون الاجتماعية، ( لم تكن هناك وزارة خاصة بالعمل كما هي الحال الآن بل كانت وزارة الشؤون الاجتماعية ترعى إحدى دوائرها قضايا العمل ثم أصبح اسمها ” وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل” ثم بعد ذلك أصبح هناك وزارتين منفصلتين هما ” وزارة العمل” و”وزارة التنمية الاجتماعية”.
لقد أصبح من الضروري بعد صدور قانون العمل المذكور أن نقتنع جميعنا ببدأ العمل لتأسيس نقابة خاصة بموظفي البنوك تحقق لنا ما كنا نفكر به بالنسبة للنادي حيث سيكون للنقابة مقر خاص باسمها تستطيع أن تنظم بداخله مختلف النشاطات الاجتماعية والثقافية والرياضية،ومن الناحية الثانية يكون أولى واجباتها رعاية مصالح موظفي البنوك والدفاع عن حقوقهم والعمل على تحسين مستوى معيشتهم. وتم الاتفاق على ذلك وتشكلت لجنة تحضيرية وضعت مسودة النظام الداخلي للنقابة وتشكلت الهيئة العامة التأسيسية التي أقرت النظام الداخلي ووقعت طلب التأسيس باسم ” نقابة مستخدمي المصارف في الأردن” الذي قدم إلى مسجل نقابات العمال في أواخر عام 1960 وبدأنا ننظر قرار مسجل النقابات بتسجيل النقابة لان طلبنا كان مستوفيا كل الشروط المنصوص عنها في قانون العمل وكنت أنا احد المكلفين بمراجعة المسجل المذكور، واذكر انه كان ( المرحوم ناجي عبد العزيز دنون).
لم يكن قانون العمل آنذاك يحدد مدة محددة على المسجل خلالها أن يصدر قراره بتسجيل النقابة أو رفض التسجيل كما هي الحال الآن ولكن كانت هناك الآن مادة في القانون
-وهي مازالت الآن- بأنه ” يحق للأشخاص الذين يرفضون المسجل تسجيل نقابتهم أن يطعنوا بقراره خلال ثلاثين يوما من تاريخ تبلغهم قرار الرفض أمام محكمة العدل العليا التي يكون قرارها قطعيا”.
أخذت أراجع مسجل النقابات بشكل دوري كل أسبوعين ثم كل أسبوع وفي كل مرة كان يحاول التهرب من إعطائي جوابا صريحا بل يكتفي بالقول” راجعني بعد اسبوعين”أو ” راجعني في وقت لاحق” وهكذا مرت شهور عديدة دونما جواب شاف حتى كاد اليأس يصيب الكثير منا من أن نقابتنا لن تسجل،وأخيرا، وبناء على استشارة احد الأصدقاء من المحامين ، اصطحبت معي ثلاثة من الزملاء من الهيئة التأسيسية وقابلنا مسجل النقابات حيث ق
لت له ” أستاذ عبد العزيز ها نحن أربعة من الموقعين على طلب تأسيس نقابة مستخدمي المصارف في الأردن الذي قدمناه لكم منذ شهور عديدة ونحن على ثقة انه مستكملا كافة الشروط المطلوبة في قانون العمل جئناك اليوم ونحن مصرين أن نسمع من عطوفتكم الآن ما هو قراركم بشأن طلبنا سواء بالإيجاب أو الرفض” أجاب مبتسما ” واضح يا أخ محمد انك تحضر للطعن أمام محكمة العدل العليا إذا كان القرار بالرفض لذلك أحضرت شهودك معك…أليس كذلك؟؟” قلت له نعم بالضبط، فقال ” إذن ليس أمامكم إلا اللجوء إلى محكمة العدل العليا ..” وصمت قليلا ثم أكمل ” لان القرار هو رفض تسجيل نقابتكم” هنا سألته: ” لماذا قرارك بالرفض ؟ هل هناك مخالفة أو نواقص في طبلنا ونظامنا الداخلي”، أجابني بحدة ” أنا لم اقل أنني قررت وإنما قلت واكرر أن القرار هو عدم تسجيل نقابة مستخدمي المصارف في الأردن و انتم أربعة تستطيعون الشهادة بما سمعتم مني، وإذا لجأتم للمحكمة وطلبتني المحكمة فربما ستستمع إلى جوابي على سؤالك أمام المحكمة”. إذن طلبنا مرفوض وليس أمامنا سوى واحد من خيارين : إما الاستسلام ونسيان الموضوع أو التمسك بحقنا القانوني والطعن بالقرار إمام محكمة العدل العليا وكان قرارنا الخيار الثاني .
وقعنا، جميع المؤسسين ، وكالة للمحامي الأستاذ محمد عياش ملحم وساهم كل منا بدينار واحد على ما اذكر لدفع رسوم القضية، فقدم الطعن بقرار مسجل نقابات العمال رفض تسجيل النقابة إمام محكمة العدل العليا، ارفع مرجع قضائي في المملكة ، وفق أحكام قانون العمل رقم (21) لسنة 1960.
في جلستها الأولى أمهلت المحكمة مسجل النقابات فترة خمسة عشر يوما إما بإلغاء قرار الرفض أو بيان الأسباب القانونية التي تحول دون تسجيل النقابة، وفي الجلسة الثانية حضر مسجل النقابات المرحوم ناجي عبد العزيز وصرح إمام المحكمة ما معناه إن طلب تسجيل نقابة باسم مستخدمي المصارف في الأردن جاء مستكملا كافة الشروط المنصوص عنها في قانون العمل ومن ناحيته لم يكن ينوي رفض تسجيلها إلا انه تلقى كتابا رسميا من ” المجلس الأعلى لأمن الدولة يوصي بعدم تسجيل النقابة لأسباب تتعلق بأمن الدولة”) وهنا قررت المحكمة الطلب من ممثل امن الدولة بيان الأسباب التي تحول دون تسجيل نقابة لمستخدمي المصارف في المملكة، وفي الجلسة الثالثة التي أعقدت بعد اسبوعين قدم رئيس الن
يابات العامة مرافعته التي جاء فيها ما معناه ” إن وجود نقابة لموظفي المصارف يجعل بإمكانهم تعريض امن الدولة لخطر كبير فيما إذا قرروا الإضراب عن العمل لتحقيق مطلب ما لأنه في هذه الحالة سيشل النشاط الاقتصادي للبلد ولا تستطيع الحكومة صرف رواتب موظفي الدولة أو أفراد الجيش والأمن العام والمؤسسات العامة وستواجه المؤسسات الخاصة نفس الأمر، ولن يستطيع التجار التخليص على بضائعهم وإخراجها من الجمارك وسوف يسود الارتباك والفوضى كل نواحي النشاط الاقتصادي والتجاري وما إلى ذلك من مخاطر كبيرة البلد في غنى عنها بل يجب تجنبها”…
في مرافعته الجوابية قال الأستاذ محمد ملحم من ضمن ما قاله ما معناه:” إن زميلي رئيس النيابات العامة- ممثل مجلس امن الدولة- كالطبيب الذي دخلت عليه سيدة حامل في شهرها التاسع فأشار باصبعة إلى بطنها وقال مخاطبا من حوله إن هذا الجنين في أحشاء هذه السيدة سيكون بعد ولادته مجرما سفاحا خطيرا فعليكم أن تقتلوه قبل إن يرى النور ويخرج للحياة … إن قانون العمل قد منح الحق لكل من يتضرر من وجود النقابة العمالية أن يلجأ للقضاء (محكمة البداية التي تخضع قراراتها للاستئناف والتمييز) مطالبا بحل النقابة أو منعها من القيام بما يلحق الضرر به ، بمعنى أن القانون يحمي البلد وأمنها، أما الحكم على النقابة بالإعدام قبل أن ترى النور لمجرد تخوفات لا أساس لها فأمر يخالف الدستور والقانون، علما انه لم يرد في قانون العمل أي نص يشترط موافقة مجلس امن لدولة على تسجيل النقابة العمالية…. الخ .”
مع أسفي الشديد لم اعد اذكر اليوم والتاريخ بالضبط- وأمل انه موجود ضمن وثائق النقابة- لكنه كان خلال عام 1961 صدور قرار محكمة العدل العليا باسم جلالة ملك البلاد المعظم بتسجيل نقابة مستخدمي المصارف في الأردن.
وهكذا تمت إعادة الحياة إلى النقابة من جديد عام 1961 لأنه كان هناك نقابة لموظفي البنوك في الأردن مؤسسة منذ عام 1954 وكان رئيسها (حميد شركس) لكنها عام 1957 وتبين لنا انه كان لها رصيد صغير لدى البنك العربي تم تحويله لنقابتنا بعد استكمال إجراءات تسجيلها وانتخاب أول هيئة إدارية لها .
كان أول من هنأنا بقرار المحكمة، بعد محامينا المحترم أمد الله في عمره ، هو المرحوم ناجي عبد العزيز مسجل نقابات العمال آنذاك حيث بارك
لنا قيام نقابتنا وصرح لنا بأنه سيعتمد على قرار محكمة العدل العليا الذي كنا السبب في إصداره سيعتمد عليه ويعلن تسجيل أكثر من عشر نقابات عمالية جديدة كانت طلباتها مجمدة في مكتبه، وفعلا تم ذلك خلال عام 1961 وما تلاه بحيث وصل عدد النقابات العمالية المسجلة إلى أكثر من ثلاثين نقابة تم دمجها لاحقا بسبعة عشر نقابة عامة.
إقرا أيضا : القضية رقم 27/1961