تتزايد اعداد الذين يشاركون في التعليق على اضراب المعلمين، وتتطور الحلول المقدمة من بعض هؤلاء ومن الحكومة ما بين الاستعانة بالمتقاعدين ونشر إعلانات بطلب معلمين من ديوان الخدمة المدنية أو وقف الإضراب مقابل لا شيء سوى وعود شكلية، ولا يلاحظ غالبية هؤلاء، وربما يلاحظون، ان اقتراحاتهم وقرارات الحكومة لا تأتي في سياق إنهاء الإضراب بما ينهي المشكلة بل في سياق كسر الإضراب، وهذا كما هو معروف ليس حلاً بل تأزيماً للموقف.
اضراب المعلمين “إضراب تاريخي” وذلك لأسباب عديدة، أولها ان هذا الإضراب نفذه عاملون في القطاع العام الذي حرّمت عليه الحكومات المتعاقبة تشكيل نقابات عمالية كما هو الحال في الدول الأخرى، وذلك بسبب عدم مصادقة الأردن على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (87) حول الحقوق النقابية والتي تعطي الحق للعاملين في القطاع العام بتشكيل نقابات عمالية تمثلهم، الأمر الذي دفع الحكومة مرغمة في حينه للموافقة على تشكيل نقابة المعلمين واعتبارها نقابة مهنية (مع انها ليست كذلك). في حين وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن (الدكتور إبراهيم غندور) رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال السودان الأسبق ووزير خارجيتها بعد ذلك هو مدرس في الجامعة.
اضراب المعلمين “اضراب تاريخي” لسبب آخر وهو انه ناجح بكل ما في الكلمة من معنى وقد صمد حتى الآن ضد محاولات كسر الإضراب التي يتم تغذيتها وتشجيعها، ولكن بدون ان تحقق النجاح، ولنجاح الاضراب او الإضرابات بشكل عام هنالك عاملان رئيسيان أولهما عدالة وشرعية المطالب التي يطالب بها المضربون مما يوفر قاعدة عريضة من منفذي الإضراب الذين لا ينتمي غالبيتهم الى الجهة السياسية التي تتولى قيادة النقابة، والسبب الثاني هو تمسك القيادة بالمطالب وعدم رضوخها لمحاولات التأثير الخارجية المتعددة بغض النظر عمن يمارسها وأيضاً القدرة على إدارة المفاوضات وطرح الحلول المعقولة والمنطقية.
وبعكس ما يدعي البعض فإن النقابة قدمت حلولاً يفترض أن تكون مقبولة للحكومة: وأولها اعتذار الحكومة عن الإجراءات التعسفية التي تمت يوم الخميس المذكور وتشكيل لجنة للتحقيق في ما تم وهذين المطلبين لا كلفة مادية لهما ولكنهما محرجان للحكومة، والثاني ان تعترف الحكومة بحق المعلمين في علاوة الـ 50% ويتم بعد ذلك التفاوض على تفاصيل العلاوة، فالمطلوب هو الاعتراف بالعلاوة وليس دفعها فوراً، الأمر الذي تتمترس الحكومة خلفه بدعوى عدم توفر المبلغ المطلوب.
في هذا الجانب فإن المعلمين هم عمال بالمعنى القانوني حسب احكام قانون العمل الأردني الذي عرّف العامل بأنه “كل شخص ذكراً كان أم انثى يؤدي عملاً لقاء أجر ويكون تابعاً لصاحب العمل وتحت إمرته”، وهذا التعريف منسجم مع التشريعات الدولية، وبتطبيق احكام القانون فإن الحكومة هي صاحب العمل بالنسبة للمعلمين ولغيرهم من العاملين في القطاع العام، ولأن الحكومة الحالية والحكومات السابقة تتخبط في العديد من المواقف وتستسهل الحلول، ولأنها رفضت ان يكون للعاملين في الدولة نقابات عمالية تمثلهم فيما رضخت لمطلب المعلمين واستسهلت الأمر عندما اعتبرت نقابتهم نقابة مهنية (وهي ليست كذلك) فإنها تتحمل قانونياً مسؤولية الوضع الاقتصادي السيء الذي يعيشه المعلمون وتتحمل ايضاً نتائج الوضع المالي للحكومة الذي يمنعها كما تدّعي من تلبية مطالبهم بحجة عدم توفر الأموال اللازمة لذلك، وقد تعامل القضاء العمالي (المحكمة العمالية) في الأردن مع مثل هذه الواقعة حيث جاء في قرارها الصادر بتاريخ 22/03/2005 في القضية رقم 1/2005 بين الجهة المدعية (النقابة العامة للعاملين في المصارف والتأمين والمحاسبة) والمدعي عليه (بنك فيلادلفيا للاستثمار) “بأن الزيادات السنوية هي من ابسط حقوق العاملين في البنك والتي لا يجوز تجاوزها أو اغفالها الأمر الذي يعني إجابة طلب النقابة بمنح الزيادة السنوية مهما كانت الظروف التي يمر بها البنك ولذا تقرر المحكمة الزام البنك المدعي عليه بمنح العاملين الزيادة السنوية بواقع 15 دينار على الراتب الأساسي”، ولمن قد يشكك في وجود علاقة بين هذا القرار وحال المعلمين أقول بأن الحكومة في حالة المعلمين هي صاحب العمل وهي التي تتحمل نتائج الفجوة الكبيرة التي حدثت بين مداخيلهم ومستوى المعيشة الذي يتزايد بنسب كبيرة، الأمر الذي يدفعهم للتمسك بمطلبهم الخاص بعلاوة الـ 50%.
في حالة أخرى شبيهة وأكثر وضوحا حكمت المحكمة العمالية في النزاع الذي نشأ بين النقابة العامة للعاملين في المصارف والتأمين والمحاسبة وبنك الأردن والخليج الذي كان يعاني من أزمة مالية دفعت البنك المركزي لتشكيل لجنة لإدارته مع منحه قرضاً بقيمة (40) مليون دينار حيث حكمت المحكمة العمالية بإلزام البنك بتعديل أوضاع العاملين في حينه رغم هذه الظروف كون العاملين لا يتحملون مسؤولية الوضع الذي يعيش فيه البنك، وأذكر في هذا السياق شخصيتين اقتصاديتين معروفتين شهدتا في هذه القضية أولهما المرحوم الدكتور ماهر الواكد وكان من المدراء الكبار في إدارة بنك الأردن وأصبح وزيراً للعمل في فترة لاحقة وقد قدم شهادته لصالح النقابة، والثاني المرحوم الدكتور فهد الفانك والذي قدّم شهادته لصالح البنك.
خلاصة ما تقدم فإن مطالب المعلمين ونقابتهم هي نزاع عمالي لا خلاف عليه من الناحية القانونية، والاضراب هو من الحقوق العمالية التي اقرتها التشريعات الدولية الناظمة للعلاقة بين العمال وأصحاب العمل أو بينهم وبين النقابات التي تمثل العمال، هذا أولاً، أما ثانياً فإن الدولة هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن الوضع المعيشي المتدهور الذي يعيشه المعلمون من جهة، ومن جهة أخرى هي المسؤولة أيضا عن عدم توفر الأموال الكافية لتلبية مطالبهم، بل هي والحكومات السابقة مسؤولين عن الواقع المعيشي الذي تمر به كافة القطاعات الشعبية، ولا يكفي للتخلص من هذه المسؤولية الادعاء بأن الأموال اللازمة لتلبية مطالب المعلمين غير متوفرة، فالأوجه العديدة للإنفاق غير المسؤول والفساد كأحد الأسباب التي أوصلتنا الى هذا الواقع وغياب القدرة على تحديد المسؤولين عنه ومحاسبتهم وأمور عديدة أخرى معروفة تضاعف المسؤولية على الحكومة وهي المسؤولة عن تلبية مطالب المعلمين ويجب التوقف فوراً عن التجييش والتحريض المباشر وغير المباشر على النقابة ومحاولة كسب الرأي العام بشكل مكشوف تمهيداً لإجراءات خطيرة، لا مجال لذكرها هنا، باتت المؤشرات والبيانات الحكومية المتتالية والمتناقضة تهيء لها.
د. حيدر رشيد